. إلى أن نعود
.. مع أشعة الشمس التي كانت تأكل رأسه وهو وحيدا في صحراء النقب، كان يسمع صخب أفكاره في رأسه كأنها مجموعة مسامير تدق.. ولا تنغرس.
ان انفه يعمل الآن تماما كما تعمل البوصلة، وهو يشعر أنه يقترب من هدفه، أنه يعجب لنفسه كيف لم ينقطع عن التفكير العنيف طوال هذه الساعات الممضة، لقد فكر في هذه الساعات كما لم يفكر ابدا طوال ثماني سنوات.
ويغرس قدميه في الرمال الناعمة، ويقتلعها كما تقتلع قطعة الخشب العتيقة عن غراء لم يجف بعد كما يجب، ثمة احاسيس ضخمة تمتلك عنه ذكرياته، ان هذه الاحاسيس لتتداخل في بعضها وتتشابك حتى ليشعر انها لازمته زمنا طويلا، ويصعب عليه الآن ان يتصور نفسه كيف كان بدونها.. أنه طشان الى حد يشعر فيه بأن حلقه اضحى جافا جامدا، فلم يعد ثمة ضرورة لبقائه، ويشعر بالتالي أنه تعب، مرهق، يكاد يتهاوى، كأنما انتهى لتوه من شد قارب كبير من البحر الى رمل الشاطئ المبلول لكنه مع هذا كله، كان يسير، مندفعا كأنه يسابق نفسه، كان نصفه العلوي يتقدم منحنيا عن بقية جسده.. فالرمل الناعم يعيق سرعة قدميه، كان قصيرا، اسمر البشرة، محروقا، لم يكن في وجهه اي شيء يستلفت النظر لاول وهلة، كل ما هنالك ان لفمه شفتين رقيقتين تنطبقان في تصميم، ان شكل وجهه يثير في الانسان _ لدن تدقيق النظر شعورا بأنه يشاهد حقلا صغيرا، بل واكثر من هذا، فان الخطين اللذين يشقان جبهته يحب الانسان ان يشبههما بآثار((شفرات)) محراث مر لتوه من ذلك المكان..
لقد بدأت رائحة ارضه تذيب احاسيسه، شيء جميل ان يشم المرء جزءا من ماضيه، ان رأسه الآن تنفتح كأنها صندوق عرس منقوش بالصدف ويحوي كل شيء، ويرى فيه داره الصغيرة الرطبة، وزوجه ترش التراب بالماء، ثم يرى نفسه آتيا من حقله بقدميه الموحلتين، ان الصورة يراها امامه هكذا، بل واكثر من ذا، كأنه يستعيد منظرا عاشه قبل دقائق فحسب، انه يرى الصورة بكل تقاطيعها الدقيقة، حتى ليرى نفسه كيف يسير، لم يتيسر له قبل الآن ان يراقب سيره بهذا الوضوح وهذا الامكان.
وهو يقترب من ارضه، هكذا يشعر في اعماقه عندما بدت له اول (بيارة) من (بيارات) أهل قريته، ابتدأ الصوت الذي ودعه على فوهة النقب الجنوبية يدق رأسه، ويتجاوب صداه في جسده:
- ((هي ارضك، الم تعش هناك؟ حسنا، انك تعرفها اكثر من سواك، في واحد من الحقول بنى اليهود خزانا يسقي المستعمرات القريبة، اعتقد انك فهمت، ان الديناميت الذي تحمله يكفيك...)).
لم يتكلم بعدها، بل انطلق عبر النقب وحيدا، وحيدا الا من هذه الزوبعة التي تثور في اعماقه.. وها هي ا رضه، حيث درج يلهو، تستلقي في احضان الجبل باستسلام.
و انزلق بين الحقول الخيالية في حذر، مستمدا من رائحة ترابه شعورا بقدرة لا تقهر، واصابعه تطبق على سكينه في تهيؤ (( وحشي)). ان رأسه تشتط به وتختلط في تاريخ الحقول التي يعرفها جيدا، ويجد عنتا شديدا في العودة الى الحقيقة..
وعندما استدار حول حقل كان لأبي حسن- جاره- في يوم من الايام، رأى نفسه يشد رأسه عاليا وهو يرقب بشعور غامض خزان المياه، يرتفع كأنما ليصل الارض بالسماء.. ليؤمن لها الماء. لكنه ساءه ان يقف الخزان، هكذا، في الحقل المعطاء.. انه بوقوفه هذا يشوه احساسا جميلا احسه هو، وجميع جيرانه، طوال حياتهم.. انهم، الفلاحين، يحسون الارض احساسا بينما ينظر سواهم اليها كمشهد عابر، ان اي حقل، يبعث بالفلاح شعورا تلقائيا بأنه- ذلك الحقل، يلقي على موجوداته ظل الابوة مهما عظمت، فيشعر الانسان انها في حماية قوة غامضة، هائلة، مخيفة، لكنها محببة..
ولكن الخزان يدمر هذا الاحساس، وهو واقف هناك كحقيقة مرة تعطيه نوعا آخر من المشاعر، بل أنه يحس احساسا عميقا ساكنا بأن الأرض نفسها ترفض الخزان.. لا تريد ان تحميه، انه يعني شيئا آخر، غير الري والماء، شيئا كبيرا داميا كالمأساه.
وحبس انفاسه وهو يرقب من خلال العواسج أرضه التي تكسب عليها عرقة ليخلقها من العدم، هاهو اذن البيت الصغير الذي كان يأوي اليه مع زوجة أيام العمل المتواصل في موسم الحصاد، فلقد كان بيتاً جميلاعلى ما فيه من تواضع، أما الآن، فلقد تهدمت ناحية منه، والناحية الثانية التي تتكئ على صخور الجبل قد علاها الغبار وصيغتها ذرات رصاصية من دخان ( الموتور )، إن الخزان يقتحم حياته بشكل مزعج، لقد اقيم في الساحة التي كان يجلس فيها وزوجته قبل أن يناما، يتحدثان فيها عن الذرة والقمح، لقد كان في مكان قائمة الخزان الاقرب للدار شجرة أجاص فؤيد من نوعها، كان يحبها ويعني بها، هنا، قرب الباب المتداعي كانت تنام زوجته ليالي الصيف، كانت في تلك الأيام يدعو جيرانه للجلوس، فتسره زوجته وترش الساحة بالماء فتكسبها رطوبة محببة .
وفجأ، وبدون أي سابق اعلام سقطت من أعماقه اللاواعية إلى حياته الواعية صورة مدوية مروعة، اجتاحته كالطوفان، هوت إلى حواسه كلها دفعة واحدة فشغلتها كلها، قبل أن يرحلا بيوم واحد ....
بيوم واحد فقط، دخل اليهود إلى البيارات، ووجد ان عليه أن يترك ولو إلى حين- ذلك العطاء .... وجر زوجته وترك أرضه، وسار ... الا أنه قبل ان يجتاز باب حلقة المقطع، دنا إلى زوجته، والفى نفسه مشدوداً إلى دمعة كبيرة في عينيها الواسعتين .. كأنما هي ذوب حنين ... كان يريد ان يقاوم لكنه رأى نفسه محاطاً بالتساؤلات التي غرستها دمعة زوجه في عروقه الزرقاء : الى أين؟ وارضك؟ اليس من الأفضل أن تعيد الى التراب عطاءه لحماً ودماً ؟
ودون أن يتكلم، سحب زوجه من يدها الى حلقة، ولم يستطيع ابدً أن يحرر نفسه من النداء الطيب في العيون الواسعة .
في تلك الليلة .. شنق اليهود زوجه على الشجرة العجوز بين الساحة والجبل أنه يراها مدلاة عارية تماماً ... كان شعرها محلوقا و مربوطا الى عنقها وينزف من فمها دم اسود لماع .. لقد شدوا خصرها النحيل شدامجنونا، لم يكن في وجهها كله، ما يشير الى انها كانت، قبل هنهية، تملأ الساح رصاصا ونارا ودما، في ذلك الوقت، كان هو مربوطا الى شجرة المقابلة يشهد كل ما فعلوه عاجزا، لقد شدوه الى الشجرة بحبال الحراثة بعد ان سلخوا ظهره بالكرابيج الجلدية طوال بعد الظهر، وتركوه يشهد كل شيء، تكروه يحدق ويصيح كالمنجون .. لقد حشوا فمها بالتراب عندما قالت له مع السلامة ) وماتت. وتركوه يمضي كي يموت بالصحراء مع ذكرياته..
انه لا ينظر الان الى هذه الصورة نظرة المشاهد، لا، ابدا، انها تتفاعل باعماق اعماقه ويحسها ويراها تنسكب على اعصابه كالرصاص المذاب، ان ذاته تتفاعل الان مع الماضي بشكل عجيب، لم يستطيع ان يخلع نفسه من الصورة الدموية، ولا ان يخلعها من نفسه، كان حاضره يمتزج مع ماضيه مزجا معقدا، ان صوت استغاثات زوجه وانينها المقطع المحروق، وصوت اسنانها تمضغ التراب، وصوت حنجرته وهي تطبق على صياحه في بحات هستيرية، كل هذا، كان يمتزج امتزاجا متشابكا بصوت الانفجار المرع، وصوت الخزان العملاق يقتلع من الوجود..
ويمتص الدخان الاسود بعض احاسيسه الدامية، ويرنو الي الحطام بهدوء صاخب..
لقد عاد في المساء الى خيمته، كان متعبا منهوكا، يحس كأنما قد تباعدت مفاصله عن بعضها، وعلى عضلاته ان تتوتر الى الابد كيما تنشد بينها، واحس وهو يصافح الانسان الذي ودعه قبل ان يذهب الى مهمته انه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد .. وسمع صوته :ماذا ؟ انتهى كل شيء على ما يرام ؟
- وهز رأسه في اعياء..وعاد يسمع صوت الرئيس:
- هل انت تعب؟ وهز رأسه نفيا وهمس بصوته العميق المجروح:
- هل اعددت مهمة صباح الغد؟
ووصله صوت رئيسه من بعيد :
ولكنك لا تستطيع ان تتابع غدا.. يجب ان تستريح .. -
ودون ان يفكر اجاب : بل استطيع ..
- الى متى تحسب انك تستطيع ان تواصل على هذه الصورة ؟
قال وهو يسند رأسه على كيس المتفجرات :
- الى ان نعود..
دمشق 24/6/1957